آثار العلم النافع في مجال التزكية

آثار العلم النافع في مجال التزكية




العلم النافع يعرف المسلم بالعقيدة الصحيحة ويرسخ إيمانه بها، ويزيد يقينه بقدرة الله سبحانه وبديع صنعه وحكمته في خلقه وتدبيره، ويقوي دعائم أركان الإيمان في نفسه، وهذه الأركان هي الأساس في تزكية النفس.
العلم النافع يعلم المسلم أحكام الحلال والحرام، وكل ما يحتاجه من أحكام العبادات والمعاملات فالعلم إمام العمل وقائد له، ولابد أن يكون العمل موافقًا للكتاب والسنة لكي يقبل عند الله سبحانه والعامل بغير علم كالسائر بلا دليل في مكان لا يعرفه.
ثم إن العلم يحدد للمسلم منزلة كل عبادة ويبين له الفرائض من النوافل، فلا ينشغل بنافله على حساب فريضة، فإن من علامة اتباع الهوى المسارعة إلى نوافل الخيرات والتكاسل عن القيام بالواجبات.
-            العلم يحفظ صاحبه من موارد الهلكة، فالإنسان لا يعرض نفسه للتلف والخطر إلا إذا كان جاهلًا بذلك لا علم له به، فهو كمن يأكل طعامًا مسمومًا، ولو علم بالسم لامتنع عن أكله فالعلم يحرس صاحبه، ويجنبه مداخل الشيطان ويحجزه عن المعاصي.[1]
العلم يثمر أعظم ثمرة يتمناها كل مسلم وهي الخشية من الله سبحانه ومحبته والقرب منه، وهذه الخشية تنمو في النفس كلما ازداد المسلم طلبًا للعلم وعملًا به، والخشية الصحيحة لا يحظى بها إلا العلماء العاملون، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 28]، فالعبد يستدل بالعلم على ربه فيعرفه وإذا عرف العبد ربه عرف نفسه وأدرك افتقاره إلى خالقه ولذلك كان الإمام أحمد رحمه الله يقول: (أصل العلم خشية الله)[2].
وهذا مصداق قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج: 54]، والعلم الذي يبعد الإنسان عن ربه ويوقعه في الضلال ويزيده تكبرًا وغررًا، لا يعد علما نافعًا مهما تعمق الإنسان فيه، فما هو إلا أخو الجهل، لأن العلم النافع ليس مجرد المعرفة ولكنه الذي يدفع لتحقيق عبودية الإنسان لخالقه.
وقد بين لنا الله سبحانه ذلك في حديث عن الكفار وما تعلموه من علم مبتوت لا يرتبط بالدار الآخرة.
فقال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7]، وقال سبحانه: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [النجم: 29، 30].
العلم كفارة للذنوب والخطايا وتطهير للنفس، وذلك لأن العلم عبادة جليلة يحظى بها المسلم بالأجر العظيم، وهو من الحسنات التي يكفر الله بها السيئات، كما قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، وقال صلى الله عليه وسلم: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها)[3].
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (إن الرجل ليخرج من منزله وعليه من الذنوب مثل جبال تهامة، فإذا سمع العلم خاف ورجع وتاب، فانصرف إلى منزله وليس عليه ذنب فلا تفارقوا مجالس العلماء)[4].
ولذلك قال الإمام الراغب الأصفهاني: (العلم والعبادة هما المطهران للنفس، وأثرهما كأثر الماء في تطهير البدن)[5].
العلم منشط للنفس وممتع لها، وهذه المتعة تنسي طالب العلم ما يناله من متاعب، وتخفف عنه ما يبذله من عناء، لأنه يجد في العلم مرتعًا يأوي إليه ويرتاح عنده، وبذلك تقوى الهمة عنده في طلب العلم ولا يشبع منه أبدًا.
وهذا ما أشار إليه الحديث النبوي الذي رواه أنس بن مالك رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب مال)[6].
وهذا النهم في طلب العلم هو بلا شك دافع للعمل ومغذ للنفس حتى تتزكى وتشفى من أمراضها وتبتعد عن اللذات المحرمة التي تميل إليها النفس الأمارة.
قال الإمام الماوردي: (العلم عوض من كل لذة ومغن عن كل شهوة... ومن تفرد بالعلم لم توحشه خلوة، ومن تسلى بالكتب لم تفته سلوة... فلا سمير كالعلم ولا ظهير كالحلم)[7]، وما أحسن قول الشاعر:
شربت العلم كأسًا بعد كأس      فما نفد الشراب ولا رويت[8]
وقد أورد الإمام ابن القيم قصة في هذا المجال عن شيخه الإمام ابن تيمية فقال: (حدثني شيخنا قال: ابتدأني مرض فقال لي الطبيب: إن مطالعتك وكلامك في العلم يزيد المرض، فقلت له: لا أصبر على ذلك وأنا أحاكمك إلى علمك، أليس النفس إذا فرحت وسرت قويت الطبيعة فدفعت المرض؟ فقال: بلى، فقلت له: فإن نفسي تسر بالعلم فتقوى به الطبيعة فأجد راحة فقال: هذا خارج عن علاجنا)[9].
ولعل خير ختام نجمل به ما سبق في موضوع العلم النافع أن نذكر القول المأثور عن معاذ ابن جبل رضي عنه، حيث قال: (تعلموا العلم، فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربه، لأنه معالم الحلال والحرام، ومنار سبل أهل الجنة، وهو الأنس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء، والزين عند الأخلاء، يرفع الله به أقوامًا فيجعلهم في الخير قادة وأئمة، تقتص آثارهم ويقتدي بأفعالهم وينتهي إلى رأيهم، ترغب الملائكة في خلتهم وبأجنحتها تمسحهم، يستغفر لهم كل رطب ويابس وحيتان البحر وهوامه وسباع البر وأنعامه، لأن العلم حياة القلوب من الجهل، ومصابيح الإبصار من الظلم، يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار والدرجات العلى في الدنيا والآخرة، التفكير فيه يعدل الصيام، ومدارسته تعدل القيام، به توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال من الحرام، هو إمام العمل، والعمل تابعه، ويلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء)[10].

الهوامش:

[1]  ينظر: مفتاح دار السعادة لابن القيم، 1/128.

[2]  فضل علم السلف على الخلف، ص 121.

[3]  جزء من حديث رواه الترمذي، كتاب البر، باب ما جاء في معاشرة الناس، رقم (1988)، وقال: حديث حسن.

[4]  مفتاح دار السعادة، ص 1/77

[5]  الذريعة إلى مكارم الشريعة للأصفهاني، ص 21.

[6]  رواه الحاكم في المستدرك، ص 1/92 وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في حاشيته على مشكاة المصابيح للخطيب التبريزي، ص1/86.

[7]  أدب الدنيا والدين، ص92.

[8]  الدين الخالص للشيخ صديق حسن خان، ص 3/228.

[9]  روضة المحبين ونزهة المشتاقين لابن القيم، ص87.

[10] جامع بيان العلم وفضله للإمام ابن عبد البر، ص1/55.

المرفقات

المرفق نوع المرفق تنزيل
آثار العلم النافع في مجال التزكية.doc doc
آثار العلم النافع في مجال التزكية pdf

التعليقات

اضف تعليق!

اكتب تعليقك

تأكد من إدخال جميع المعلومات المطلوبة.

;

التصنيفات


أعلى